الأحد، ٢٦ أكتوبر ٢٠٠٨

اللاوجودي



اللا وُجـــوديّ

لا أذكر تحديدًا هل ولدت هكذا، أم أنها حادثة، أم مرض ألم بي في صغري؟
ما أعرفه أنني وعيت على حالتي تلك..
لم أسأل أحدًا.. فمن يهتم؟
أنا لست موجودًا.. هواء.. بداخلي فراغ كبير..
لا أجهزة، لا أعضاء، لا شيء!
المهم أني اعتدت هذا من طول المعايشة!
...

لم يكن من يراني في طفولتي ليعرف نوعي -وما فائدة النوع؟- خاصة مع تلك الملابس (البناتي) التي كنت أرتديها، والتي عرفت مصدرها عندما وجدت إحداهن تقدم لأمي صُرة، فتأخذها شاكرة إياها في تذلل.
كانت معظم هذه الملابس لأختي التي تكبرني. ربما لم يعلموا بوجودي أو الأصح أنهم علموا بلا وجودي!
...
كان أبي يمازحنا عندما كنا صغارًا مقلدًا صوت الأراجوز، ونحن متحلقون حول (الطبلية) التي يتوسطها طبق الفول. حقيقة كنت أستمتع بحركات أبي المضحكة - التي عرفت سرها فيما بعد، خاصة مع حالة البؤس التي تلازمه دائمًا في غير أوقات الأكل- كنت أندمج مع أبي، ولا أفيق إلا على عراك إخوتي على آخر لقمة من الفول الذي انتهى رغم محاولات أبي.
لا.. لم أكن أشعر بالجوع!
فأنا...
لا شيء!
...
كبرتُ قليلاً، ولِمَ لا وقد تعلمتُ في المدرسة أن الهواء أيضًا يتمدد بالحرارة؟!!
كانت أمي تصر على إجلاسي على حجرها في المواصلات ورأسي -المفترضة- تُلامس سقف السيارة، ويتعالى صوتها عراكًا مع السائق الذي يصر على أنني (نفر) ولا بد من دفع أجرة لي، كيف يأخذ عني أجرة هذا اللص وأنا غير موجود؟!
...
ترك كل إخوتي وأخواتي الدراسة لأسباب مختلفة، والتحقوا جميعًا بأعمال مهنية تدرُّ ربحًا يفرح به أبي المتعب، وبقيت أنا الوحيد بالمدرسة حتى أنه لم يكن يسألني العمل في الإجازات!! هل نسيني أبي؟ ربما..
...
في المدرسة كنت متفوقًا، ليس إثباتًا للوجود، فلم أكن أشعر بأية غضاضة في نفسي، لكنني كنت متفوقًا، وعندما يسأل المدرس سؤالاً صعبًا ويطلب إجابة فأرفع يدي -كما أراها- كان يكيل لكل الفصل الشتائم واللعنات ويخرج غاضبًا!
لم يكن ليراني، وهو معذور!
...
لم يكن لي أصدقاء بالطبع!
...
حين أركب الميكروباص المغلقة نوافذه في الشتاء، ويقوم أحدهم بإشعال سيجارة وقحة؛ أنتظر أن يقوم أحد (الموجودين) بزجره عن فعلته لكن أحدًا لا يفعل!
لم أكن أتضايق طبعًا..
فأنا...
...
فوجئت بنفسي وقد شعرت بمشاعر غريبة لا أعرف كنهها تجاه (بنت الجيران)، وأدركت أن لي ذاكرة عندما تذكرت أنها كانت معي.. (عفوًا) كانت في نفس المدرسة الابتدائية التي لم أكن فيها.
أصبحت أحب رؤيتها وأتحين الفرص لذلك..
هل هذا قلبي الذي يدق عندما أراها؟!
هل هو الذي انقبض حزنًا عندما علمت بخبر خطبتها؟!
ربما...
...
بدأت تساورني تساؤلات شغلت فكري..
ماذا لو كنت موجودًا؟
ماذا كنت سأضيف للعالم؟
هل من شيء كان سيتغير في الحياة؟
وهل خسر العالم شيئًا بكوني -أو بعدم كوني- هكذا؟
أرقتني هذه الأفكار اللا وجودية طويلاً!
...
في الجامعة حاول بعضهم التعرف بي وعجبت لهذا!
في إحدى المحاضرات جلست بجانبي.. من أراهم يتهافتون عليها.. جميلة حقًّا لا أنكر.. ها هي بجواري.. ما لي لا أشعر بشيء؟ ها هو كتفها يلامس ما أعتقد أنه كتفي، وها هي ذي خصلات شعرها الذهبي تلتصق بك يا ذراعي!
أتأمل نظراتهم الحاقدة.. أحاول استنطاق كل المشاعر الخرساء في ذراعي. لم تهمس إلا عندما تخيلتها ابنة الجيران التي افتقدتها..
- ممكن الكشكول لو سمحت؟
- نعم؟ أنا ؟!!
- أيوه.
- اتفضلي.
ما هذا؟ إنها تكلمني، هل تراني؟ هل أنا موجود؟!
ربما..
...
التحقتُ بوظيفة، وعندما حصلت على أول مرتب تشككت بلا وجودي. كان مبلغًا صغيرًا لكنه كان كفيلاً بإشعاري أنني ربما أكون مخطئًا.. ربما أصبحتُ موجودًا!
لكن، لم أجد أحدًا يشاركني فرحتي، فقد مات أبي وماتت أمي وتفـرَّق إخوتي..
كم كنت أتمنى أن يكونا موجودين!
إنني مثل إخوتي.. ها هو ذا المال.. دليل وجودي وفائدتي في الحياة.. ربما لا نحتاج للآخرين، ولا ملابسهم.
أنهيت مناجاتي لهما. وضعت الزهرات على قبريهما، ووزعت على المقرئين الشحاذين بعض المال، وذهبت.
...
ركبت الميكروباص وجلست بجوار السائق وحدي دافعًا أجرتين!
ما هذا؟ إنه يغير مساره!
تتعالى صيحات البعض مستفسرة..
- أصل الدنيا زحمة والطريق ده أقصر.
تتوقف السيارة فجأة في مكان ما وسط الغيطان.. ينـزل السائق واثنان من الركاب شاهرين سلاحًا أبيض، آمرين إحدى الراكبات بالنـزول..
- إللي هايقرب هايكون آخر يوم في عمره..
تصرخ فيقتادونها وسط ذهول الجميع وصمتهم!
أنتظر أن يتحرك أحد (الموجودين) أو كما أراهم.. بلا جدوى. أتذكر مُشعل السيجارة وموقفهم منه. صرخاتها تمزقني..
لِمَ لا أتحركُ إن كنت موجودًا؟ وإن لم أكن.. فماذا أخاف؟
أصرخ فيهم متقدمًا بحماس. أحسست أن لي يدًا عندما أمسكت بها محاولاً تخليصها من أيديهم، وتأكدت أن لي بطنًا عندما غرس أحدهم مطواته فيها بعنف!
ما هذا الألم، وما تلك الدماء؟
يجرون وتركع هي صارخة على الركاب غير الموجودين. أشعر بهم يتجمعون فوقي وأنا بين الوعي.. واللا وعي..
الوجود
و...
اللا وجود
متأرجحًا بين الوهم والحقيقة أسمعهم..
- ده مات!
أبتسم في سعادة حقيقية لأول مرة..
إذن... فقد كنت!!
..
طارق رمضان

الثلاثاء، ١٤ أكتوبر ٢٠٠٨

امبارح كان عمري تلاتين



عندما يقترب يوم مولدك يتسلل اليك السؤال التقليدي الممل : هل عمرك زاد سنة ولا تقص سنة ؟



ولأنني من الألترا متفائلين الذين ينظرون الى نصف الكوب الفارغ لأنهم – ببساطة - كانوا يتمنون ان يكون مملوءا ! وكذلك أتذكر كامل الشناوي وقصيدته الغم : جئت يا يوم مولدي .. جدت يا أيها الشقي " !



لا اعرف لماذا أتذكر الموت ..


اسمعكم تقولون ايه الراجل الكئيب ده ؟ موت ايه في يوم زي ده ؟ -



الموت الذي كنت اعتبره وانا صغير هي تلك الحالة التي تصيب الاخرين !



وكنت اتعجب من مبالغة الناس في الحزن عند وفاة قريب لهم .


لم اكن أشعر بتلك اللوعة التي تصاحب اهل المتوفي من انهم لن يروه ثانية وان عليهم التكيف مع الحياة بدونه ..



وكنت قد أعددت خطة للهرب من ملك الموت اذا جاء حيث سأختبئ تحت السرير لاتتعجبوا فلم يكن سريرا عاديا كان سريرا بعمدان – بعضكم لم ير هذا النوع من الأسرة –


وكانت أرجله المعدنية طويلة جدا – بالنسبة لطفل – حيث هناك براح ومخبأ آمن تحت السرير.


وكنت اذا فعلت شيئا وأردت الاختباء او عند لعب المساكة – فاكرين اللعبة دي ؟ -


كنت أختار ملاذي الامن تحت السرير ..


ووصل الأمر الى أنني فكرت أنه حتى لو قامت القيامة – وانا موجود – فلا مشكلة حيث ملاذي الامن في الخدمة دائما .. ومرت سنوات وكبرت حبة وتطورت احوال العائلة التي اكتشفت ان موضة السرير ابو عمدان بطلت فباعوه بثمن بخس للراجل اللي كان بيلف في الشوارع " دواليب للبيع "




ومن يومها لم يعد للسرير " تحت " يحميني وضاع الأمان واختفى الكمان – على رأي أمل دنقل ..



كانت هذه فكرتي عن الموت حتى قرات " السقا مات " احدى روايات السباعي القليلة الجيدة وتأثرت بها جداا .



وادركت معنى كلمة موت حقيقة عند وفاة أخي الشاب بعد صراع مع المرض قبل امتحان الثانوية العامة بأربعين يوما أتذكر الموعد جيدا حيث أن التجمع يوم الأربعين – تلك العادة الفرعونية البغيضة – كان ليلة امتحان العربي !




عرفت ساعتها معنى الموت لأول مرة حتى انه عند وفاة والدي – العجوز – بعدها بسنوات قليلة لم أتأثر كثيرا !




لكن عندما توفيت امي – فجاة – وهي تجلس بجواري كانت صدمة ..


لم اكن استطيع تحمل تلك الصدمة لولا ما حدث فقد شعرت – في الحقيقة لم أشعر !


– بأن مشاعري كلها قد تجمدت لا فرح لا حزن لا تأثر بأي شيئ واستمر ذلك لفترة


– ..–


لن اتحدث عن امي فالكلام سيكون مكررا فكل منا يعتقد ان امه – فقط – هي أطيب وأنقى امراة في الكون ... ايييه



المهم أنه احيانا يأتيني شعور – قبل النوم خصوصا –


بانني ساموت وأشعر بانقباض غريب واشعر بالرعب عندما أسال نفسي هل انا مستعد ؟


حتى انني في مواقف الطاعات – الصلاة مثلا – أتساءل لماذا لا يكون الان ؟ ليتها تكون الان ..



لكن بعدها تأخذك الحياة بتفاصيلها حتى يحدث موقف ما يجعلك تعود للتفكير في ثنائية الموت والحياة المؤرقة ..




والان وبعد احداث كثيرة ساعدتني هذه المواقف ان أرى الدنيا من عل ففي الأزمات عندما تنظر هذه النظرة ترى الأزمة في حجمها الحقيقي التافه فكلها أمور دنيوية والدنيا كلها لجنة امتحان تمر بها ..




وتتذكر " ولقد خلقنا الانسان في كبد " وان " الدنيا سجن المؤمن " وكذلك " القابض على دينه " مما يرسخ فكرة ان الدنيا ليست دار اقامة وسعادة لكن الرضا بالقضاء والصبر وتسليم الامور لله يمنحك شعورا بالطمأنينة والراحة لا تكون لأحد الا للمؤمن ..



الشيخ محمد الغزالي أتذكر له قول جميل : اللهم امنحني القدرة على الصبر على البلاء .. وامنحني القدرة على تغيير المنكر .. وامنحني العقل الراجح الذي يفرق بينهما .



طولت في موضوع غم لكن الرسول علية السلام قال " اكثروا من ذكر هادم اللذات "
صدق الرسول الكريم



ط