الأربعاء، ٢٨ مايو ٢٠٠٨

قصة بحبها

أحـلامُ صفـرِ اليسـار

..لم يكن يدرك حقيقة أبعاد تلك العبارة التي..
..الآن وجهًا لوجه مع الوجه الآخر الذي..
..باب يفتح يغلق كل أبواب الذاكرة التي..
..يتأمل الرجل الـ ما يزال راقدًا من خلف الزجاج الذي..
* ** *
لم يكن يدرك حقيقة أبعاد تلك العبارة التي طالما قرأها في صفحات الحوادث، ربما تكرارها بنفس الطريقة أفقدها معناها، ربما حياده السلبي تجاه ما يقرأ لم يُشعره بما وراءها.. "اختلت عجلة القيادة" يا لها من جملة ولود! حالته تلك التي خرجت من رحم هذه العبارة لم يكن لخياله العقيم أن ينجبها يومًا! وقفته هذه أمام غرفة العمليات هي الثانية له في الحياة: الأولى كانت في انتظار وليده الوحيد..
في الأولى كان سببًا في الحياة أما في الثانية فربما يكون سببًا في الموت!! يا للقدر! المستشفى نفسها.. صرخات زوجته تدفعه لإيقاف تاكسي يأمره بالتوجه لأقرب مستشفى.. منظر الرجل المُسجى يدفعه لقيادة سيارته الجديدة لنفس المكان..
المكان ذي الوجهين الأزليين للوجود!

الآن وجهًا لوجه مع الوجه الآخر الذي طالما هرب من التفكير فيه، يطارده السؤال حتى يناله: أيمكن أن يتسبب في قتل شخص؟!.. يضرب رأسه بكفيه مجبِرًا عينيه على تصفح الأبواب.. المقابض.. بلاطات سيراميك الأرضية التي ينهمك في عدها بصوت أراد أن يكون أعلى من الأصوات الأخرى.. تحيل ذاكرته العد إلى: "حد.. اتنين.. تلاتة.." طابور من مرتدي الزي العسكري هو أحدهم.. ليس سوى رقم.. أخذوه مع أرقام أخرى بالطائرة إلى مكان بعيد أخبروه أن اسمه "حفر الباطن".. أعطوه بندقية وطلبوا منه أن يستخدمها حال الاشتباك مع.. مع العدو، دخل المدينة التي استسلم "العدو" قبل اقتحامها وخزانة بندقيته كاملة العدد! لكن ماذا لو حدثت المواجهة ووجد الآخر يصوب تجاهه؟! هل كان سـ.. سيفرغ الخزانة؟! يرفع صوته أكثر: أربعة.. خمسة..
خمسة وسبعون جنيهًا! عندما قرأ قيمة الفاتورة المقدمة من يد النادل في كافتيريا الفندق الشهير أصابه الفزع..
"لماذا؟".. خرجت هامسة محرجة، حاولت خطيبته –حينها- فتح حقيبتها منهيةً الموقف، لكنه وجد في إلصاق تهمة اللصوصية بهم مخرجًا جيدًا. تعالت الأصوات حتى خرجت من فم النادل جملة لمست أوتارًا داخله: "إذا لم تكن على قدر المكان فلماذا دخلته أيها الفسل؟!". أمام خطيبته التي يحاول أن يمارس حياتها أثارته العبارة الجارحة وجعلته لأول مرة يتشاجر، وصل غضبه مداه، ونتيجةً لعدم خبرته بأمور الاشتباك كاد يستخدم سكين الطعام استخدامًا آخر! لولاهم.. من أخرجوه بعدما أخذوا كل ما معه. كادت تلك الحادثة تنهي مشروع زواجه، وكادت تحوله إلى.. يبدو أننا مجرمون مع إيقاف التنفيذ؟!

باب يُفتح يغلِق كل أبواب الذاكرة التي كلَّت من العمل، تخرج العربة "التروللي" وعليها ضحيته، يدفعها الممرضون بسرعة. يتوقف لسانه رعبًا فلا يستطيع سؤال الطبيب الخارج منهكاً، تنكمش أذناه خوفًا فلا يستطيع التقاط كلمات الطبيب المبادر. عقله الشجاع ما زال يعمل فيفهم أن الحالة ما زالت حرجة. يحاول الدخول على ضحيته فيمنعونه. خارج الحجرة وعبر الحاجز الزجاجي يراقبه وقد علقوا له المحاليل وزرعوا الأنابيب في أوردته. هذا الوجه.. هذا الإنسان.. أيتسبب في إزهاق روحه، في إخراجه من الحياة..؟!!
هذا الـ..
هذا الأب الذي ما إن يعود إلى البيت حتى يصرخ أبناؤه سائلين إياه ماذا أحضرت لنا؟.. هذا الممسك يد طفله في الشارع؛ ويشد الطفل ملابسه في إلحاح جراء إغراء عربة الفيشار المثيرة.. هذا الزوج الذي خرج كي يشتري الشفاء لزوجته المريضة.. هذا الأخ المشتري شيئًا من جهاز أخته العانس القابعة في انتظار المستحيل.. هذا الابن الذاهب ليعود أباه في مستشفاه.. هذا.. هذا الإنسان!
بيده ينهي هذه المنظومة.. يقطع تلك العلاقات.. يوقف تتابع أحداث حياته، يا له من مجرم..!!
بالتأكيد سيأتي أهله الآن، تُرى ماذا سيفعلون؟! الخوف يساند مشاعره السلبية في حربها عليه!
الممرضة السمراء القصيرة.. إنها تحدثه مشيرةً إلى الراقد خلف الزجاج، ينتبه..
- لم نجد معه ما يدلنا على شخصيته.
يتراجع الخوف لصالح الرثاء، لكن الخوف يكسب جولة جديدة مع جملتها: تم إبلاغ البوليس وهم قادمون للتحقيق.
- التحقيق؟ في أية جريمة؟!!
يرى صورته المنشورة على صفحة الحوادث يقرأها حموه بتشفِّ واحتقار، يقرأها زملاء ابنه في المدرسة الفرنسية بسخرية، زملاؤه في العمل –الذي لم يهنأ بمنصبه الجديد فيه– سيجدون مادة مثيرة للنميمة. كل ما بناه سينهدم في لحظة.. أية ثقة في حياة كهذه؟!
- يا الله.. نجني من تلك الكارثة.. أية سعادة سأشعر بها عندذاك؟ وأية سعادة كنت فيها قبلها! لماذا لم أكن أشعر بها؟ لماذا لا نعتد بسعادة اللا كوارث؟.. يا لنا من بشر!

يتأمل الرجل الـ ما يزال راقدًا من خلف الزجاج الذي عكس صورته، أثاره الشبه بين الوجهين، الشيب الزاحف في فودي رأس الآخر يُذكره بصبغة شعره ناصع السواد!
تأمل الآخر مليًّا.. اكتشف أنه لا يرتدي خاتمًا في يسراه، على صفحة ملامحه يقرأ معاني البراءة والصفاء.
يمسح وجهه فتبتل يداه. لم يزر ذاك الندى وجه عند وفاة أبيه.. "أبوه"! من قفز لذاكرته عند ذكر كلمة الموت، أبوه الذي لم يحضر زفافه.. الذي..
السمراء القصيرة تنقذه مرة أخرى بفاتورة في يدها، يبدو عليه الانزعاج من رؤية عدد أصفارها.
- يمكنك أن تحرر شيكًا.
يا لها من امرأة كريهة! لماذا ذكرته بدفتر الشيكات.. الوافد الجديد إلى جيبه؟ يحرر الشيك معطيها إياه، يمسح بأصابعه على الدفتر ثعباني الملمس. يهرب هذه المرة في ضحيته فيداهمه منظره في الشارع، تردده بين أن يجري أو يتراجع.. خطواته هو المتقدمة المتقهقرة في مكتبه والشيك خماسي الأصفار أمامه، وزوجته -التي لا تطلب شيئًا وتطلب كل شيء- بحديثها المتواصل عن أبيها وإخوتها وماركات سياراتهم من خلفه.. أين المفر؟
يستجيب للمكالمة الشيطانية، ويضيف صفرًا في دفتر حساباته.
صفر مقابل خمسة.. يا لها من عملية مربحة وبسيطة! فالعملية كلها أصفار.. أي.. لا شيء! لقد سقط بسرعة في أول تجربة.. يبدو أننا شرفاء حتى إشعار آخر!
يتقدم نحو الشيك.. يركب سيارته الجديدة لأول مرة.. يمسك الشيك بنشوة.. السيارة تترنح وهو ليس بالخبير.. يضعه في جيبه.. تظهر الضحية بجوار الرصيف.. يشعر بسعادة مستعرضًا أحلامه.. ينحرف نحوه.. يفتح حسابًا في البنك.. صوت ارتطام جسم السيارة بجسمه.. تشله الصدمة، تمنعه من الهرب. ينـزل طالبًا العون؛ لكن الخائفين في الشارع يهرولون هربًا. اللون الدخيل الذي لوث السيارة هو نفسه المعلق في الكيس أمامه!
يعود إليه، يثبت بصره على صدره متوقعًا في أية لحظة توقف الحركة الترددية. يتوحد تردد أنفاسه مع أنفاسه. تتسارع دقات قلبه كأنه يريد أن يتنفس له..
- أرجوك.. أرجوك لا تمت.. أيها المجهول!
ط
يناير2006

ليست هناك تعليقات: