الثلاثاء، ٥ أغسطس ٢٠٠٨

تعليق على المجموعة

خلاف التعليقات الشفاهية الكثيرة التي حصلت عليها كان هناك تعليقان مكتوبان - للأسف في كشاكيل - من المغمور العزيز الشاعر عادل محمد والذي ألقاه في حفل التوقيع، وكذلك تعليق الشاعر الفيلسوف كريم الصياد في يوم مناقشة المجموعة بالجلسة الثقافية . وقد كانا عبارة عن دراستين نقديتين شاملتين وهامتين جدا أتمنى الحصول عليهما كما وعد صاحباهما.. لذا فتلك تعد أول دراسة مكتوبة - ديجيتال - عن مجموعتي فشكرا لصاحبها الصديق المغمور القاص والسيناريست عارف فكري..
...

"يسمع صوت سباب وعراك ويشعر بمن يجرى حوله. يتخبط حتى يُفاجأ بضربة تفصل ركبة رجله السليمة فيهوي. يزحف مصرًّا على الوصول. يمر من بين الأقدام منثنيًا كالثعبان.. ثعبان بلا سم!!
يعلو فجأة صوت الميكروفونات وضجيج السيارات فتصم أذناه، ويفقد آخر خيط يربطه بالعالم. تدوسه أقدام وإطارات سيارات.. يصبح.......!!
لكنه غير يائس. ينقبض وينبسط محاولاً التقدم، يتحرك في مداره البيضاوي ببطء والأمل هو آخر ما يملك. وهو مستمر في الانقباض والانبساط: بالتأكيد سأصل!!!!"
من قصة " أميبا" / المجموعة القصصية :موت أداة الاستثناء

***
يمكن تلخيص المجموعة القصصية الأولى للقاصّ الشاب " طارق رمضان " فى أنها أزمة الفرد فى الهرب من شىء ما ، والبحث عن شىء ما ، وينتابك الاحساس القاهر أن الكاتب اقتطع تلك القصص من ذاته هو ، وصاغها من خلال نفثة إبداعية قد تتفق معها أو تختلف ، لكنها ستلمس وتراً حساساً بداخلك .
***
فى قصة " اللا وُجــوديّ " نتعامل مع أزمة ذات طراز خاص :شخص يتأرجح بين منطقتى الوجود والعدم .. إنهم يعاملونه كأنه لم يكن .. صفر فى الحياة لا قيمة له كأنه العدم ، ومع استرساله – من خلال ضمير الراوى- نقابله فى عدة محطات حياتية مختلفة : عندما كان صغيراً حيث يقول
" لم أسأل أحدًا.. فمن يهتم؟
أنا لست موجودًا.. هواء.. بداخلي فراغ كبير..
لا أجهزة، لا أعضاء، لا شيء!
المهم أني اعتدت هذا من طول المعايشة!"
فهو لا يشعر بالجوع كما يشعر أخوته ، ويتكالبون على طبق الفول، وحتى لما كبر قليلاً كان السائق يصرّ على أخذ أجرة نفر كامل ، برغم أنه غير موجود!
بعد هذه النبرة العدمية الصارمة نشعر بتشككه .. لقد كبر، واشتغل أخوته ما عدا هو .. فهل نسيه والده ؟ ربما! و"ربما " هذه تقابلنا أكثر من مرة فيما بعد ، لتأخذنا فى مرحلة تأرجح بين الوجود والعدم !
بين وجوده فى قبضه لأول مرتب .. فى تلك المشاعر الأولى لبنت الجيران !
ويظل فى تساؤلاته الحارة تلك، حتى تنتهى القصة فى ميكروباص ، حيث تغتصب فتاة أمامه ، وعندما يتدخل ويقتل يدرك أنه موجود حقاً ! أقصد أنه كان موجوداً !
الغريب أن القصة رويت بضمير البطل الفعلى ، وبرغم موته فندرك أنه ما زال ينبئنا عن تيقنه بأنه كان موجوداً فى الحياة ، وبرغم أننى كنت أحب أن تكون القصة من سارد كلّى المعرفة ، حتى تكون النهاية منطقية ، فهذا لا ينفى أن هذا أضفى على الحدث جوّاً ميتافيزيقياً مميزاً .
ضمير الرواى – على لسان البطل – يتكرر أكثر من مرة ،ويبدو تكنيكاً محبباً للقاصّ، فمن خلاله يستطيع التعبير عن المشاعر والأحاسيس بتدفق .
***
الأمر اختلف كثيراً فى قصة "أميبا" برغم الطابع الكابوسى الذى يظللها، والذى يذكرنا بأعمال "كافكا" الرهيبة .
فنحن الآن مع بطل من طراز خاص وفريد .. فهو يصحو فى ذلك اليوم الموعود متأهباً لموعدٍ هام .. هل سيقابل حبيبته مثلاً ؟ لا نعرف .. المهم أنه –فى طريقه – لموعده الغامض- يواجه الكثير من الكوارث التى تجعله يفقد ذراعيه وساقيه وسمعه وبصره ، وسط مدينة قاسية تمتلىء بشرطة ظالمة ، وأبنية خرسانية لا ترحم ( الفراغ :هاجس المؤلف الأول!) وبرغم هذا فهو يصرّ على الوصول للمكان المحدد فى الموعد المحدد ، حتى لو تحول لأميبا بشرية عملاقة ملوثة بالدم، تتحرك وسط الحشود!
ما زال يوجد الأمل حتى لو تحطم كل شىء !
***
فى قصة " العرايا " نحن مع شخص يفاجأ بأن الجميع قد صاروا عرايا!
تلك الفرضية المخيفة ، والتى تبعث التقزز والنشوة فى ذات الوقت يعالجها الكاتب بمهارة ، حيث يغدو البطل هو الوحيد الذى يرتدى ثياباً ، ومن ثمّ يصير نشازاً صار العرىّ فيه هو القاعدة!
" ركبت الأتوبيس.. كل من فيه عرايا حتى السائق! أخيرًا وصلت. تنبهت إلى أن نصفي العلوي عارٍ. أحسست بحرج شديد لكني حزمت أمري ودخلت غير عابئ. شعرت أن نظرات كل من في الفندق الكبير تصوَّب ناحيتي، أحسها كطلقات بندقية تخترق جسدي العاري!"
نعرف أن الأشياء المستترة تفقد بريقها وتوهجها عندما تنكشف، وبالتالى يهرب البطل من الجموع العارية التى تطلب أن يتعرّى !
" بعد فترة اعتدت المنظر فلم يعد مثيرًا لي. وبينما أنا كذلك وجدتها.. إنها أجمل نزيلة في الفندق تلك التي خفق لها قلبي. لكن ما الذي تفعله في صالة الديسكو –وا أسفاه- إنها أيضاً مثلهم. كل ما كنت أتطلع لرؤيته منها أصبح عاديًّا!"
هل هى أزمة الشرفاء وسط مجتمع فاسد ، والأنقياء وسط الملوثين؟
" كل هذا وأنا مستمر في الجري.. متلاحق الأنفاس.. أتشبث بما تبقى من ملابسي!"
***
فى قصة "هم " نلاحظ الطابع التآمرى الواضح ، فى شخص يتمتع – أو هو يظن هذا – أن من حوله يتحركون عن طريق خيوط تذهب بهم حيث يشاءون ، ومن قرأوا منكم رواية " 1984" ، سيشعرون بذات النغمة ، وإن كنت قد صدمت بالجلمة الاخيرة التى قالها البطل
" تنتابه فجأة نوبة عصبية فينظر لأعلى: لن أكون أداة. أنا لست لعبة. أتسمعون؟ أنا لست لعبة!!!"
أعتقد أن القصة أزمة كل من يحاول الفكاك من سطوة المجتمع وتقاليده ليكون ذاته
!
***
فى المجموعة ككل :
· قوة فى السرد تميّز القاصّ"طارق رمضان" فى أول أعماله ، وجوّ خاص تضفيه لغته السلسة والممتعة .
· المجموعة تتخللها مناطق ميتافيزيقية شديدة الخصوصية ، تتعانق مع النفس البشرية بشكل يوحى إليك أن من تقرأ عنهم يواجهون مشكلة ذات وتأقلم مع المجتمع ،فهم لا يقدرون على التصالح والتفاهم معه ، وإن تمّ هذا فهو كفيل بتدميرهم بلا رحمة !
· الطابع الكابوسى المرير ،والسخرية اللاذعة الخفيفة فى بعض القصص أعطت تنوعاً للمجموعة ، وقدرة على امتصاصها ، حيث أنها مجموعة ليست بسيطة ، ويعالج المؤلف فيها موضوعات هامة ، مع ترك الحل .. إنه يكتفى بالرصد فقط ، وإن أعطى فيها للأبطال حرية التفاعل ، ومحاولة التغيير.
· رحلة كل شخص منا فى الهرب من شىء يقضّ المضجع ، والبحث عن شىء هام قد يمنحنا السعادة!
عارف فكري
..
ط

ليست هناك تعليقات: