الثلاثاء، ٢٩ يناير ٢٠٠٨

هنا القاهرة

هنا القاهرة

هنا القاهرة
القاهرة القاهرة
هنا القاهرة
الساحرة الاسرة
الهادرة الساهرة
الساترة السافرة
هنا القاهرة
الزاهرة العاطرة
الشاعرة النيرة
الخيرة الطاهرة
هنا القاهرة
الساخرة القادرة
الصابرة المنذرة
الثائرة الظافرة
هنا القاهرة
القاهرة القاهرة
صدى الهمس في الزحمة والشوشرة
أسى الوحدة في اللمة والنطورة
هنا الحب والكدب والمنظرة
نشا الغش في الوش والافترا
هنا القرش والرش
والقش والسمسرة
هنا الحب والحق
والرحمة والمغفرة
هنا القاهرة
القاهرة القاهرة
وانا ف قلب دوامتك الدايرة بينا
بصرخ بحبك
يا اجمل مدينة
يا ضحكة حزينة
يا طايشة ورزينة
بحبك واعفر جبيني ف ترابك
واعيش في رحابك
واقف جنب بابك
جنايني أروي بالدم وردة شبابك
يا زينة جنينة حياتنا اللعينة
بحبك بحبك بحبك
يا بنت اللذين
بحبك

سيد حجاب
............



تجـــاعيد

- ها ها ها..
شاركتُها ضحكتها المجلجلة متحديًا كل مشاعري الداخلية. الأضواء حولي تضحك هي الأخرى ضحكات متقطعة. أضغط على يدها البضة كلما رأيت حسناء تمر بجوارنا، أو تقف أمام إحدى الفاترينات وقفة الراهب المتعبد.
تزداد الضغطات فتنظر لي نظرة ذات مغزى!
أشير إلى محل الحلويات الشهير: إيه رأيك؟ تهز رأسها موافقة. أغيب بالداخل وأخرج حاملاً قرطاسي الآيس كريم. تبدأ في تناوله وأنا أتابعها: آه لو يعلم النساء كم هن مثيرات وهنَّ يأكلن الآيس كريم! أتجرأ وأمرر أصابعي بين خصلات شعرها الأسود الناعم. تبتسم فأبتسم. أحتضن أصابعها بأصابعي.
- تقدر تقوللي إيه هيّ السعادة؟
فاجأني سؤالها، لكنني ابتسمت: إنتي فاكراني أنيس منصور؟
ترد بدلال: لأ، بجد.
- السعادة..؟ السعادة هيّ أي وضع وأي حالة.. المهم ما تكونيش لوحدك!
- طب والجحيم؟
- الجحيم الدقايق اللي بحط فيها راسي ع المخدة قبل النوم!
صمتها المتأمل انتقل إليَّ؛ فأغرق في التفاصيل: الباعة بنداءاتهم المسجوعة على الرصيف يصرخون ويستغيثون بالمارة ليشتروا بضاعتهم، وأصحاب المحال يقفون على أبوابها ينفثون دخان سجائرهم غير مبالين بشيء. صوت عمرو دياب ينبعث من أكثر من جهة لا ألتقط منه سوى "أنا عايش.. ومش عايش"؛ فأعود إليها..
- إنتي عارفة أكتر حاجة باعشقها.. المشي في وسط البلد.
ترد باقتضاب: واضح.
نمر بين المارة بصعوبة حتى تحتار أعيننا بين أفيشات سينما ميامي ومترو.
أجدها متحمسة: ما تيجي..
- لأ.. (تُفاجأ بردي الحاد. إنها لا تعرف شيئًا، سأشرد مهما كان الفيلم مثيرًا، حتى لو عابثتها سينتهي كل شيء وستهجم عليَّ أفكاري) لأ.. أصلي ماليش مزاج.
- على راحتك.
- المهم انتي أخبارك إيه وأخبار..
لا تتركني أكمل، وتبدأ في الحكي وأنا أرغم نفسي وأقهرها لأعيش ما تحكيه وأنفعل به.. عن نفسها وعن أبيها وأخواتها وخطيب أختِها.. و..
"اوزن نفسك"
- تحبي تعرفي وزنك؟
خجلتُ من نفسي وخَجِلَتْ لما اكتشفنا أنها أثقل مني بعشرة كيلوجرامات، ولما تلاقت أعيننا انفجرنا في هستيريا من الضحك، الضحك الصاخب الذي نمد في أمده برغبتنا في الضحك نفسه. صخب المدينة من حولنا يغطي على الصخب الذي أحدثناه.
وصلنا ميدان العتبة وبائعو شرائط الكاسيت يعاقبون من لا يشتري شرائطهم بإصابته بالصمم. نصل إلى محل العصير بالميدان. أتأملها وهي تشرب المانجو التي تفضلها. عيناها العميقتان أشعر في نهايتهما بحزن دفين فأهرب إلى شفتيها المطليتين بالأحمر المبهج.
ننصرف إلى أحد الباعة على الرصيف، لكنه فجأة يحمل بضاعته ويهرب. زملاؤه يفعلون الشيء نفسه. يهرولون في اتجاهات مختلفة هربًا من كائن خرافي يطاردهم.
نبتعد محتمين بسور المترو..
- لازم أمشي.
- لأ.. قصدي ليه؟
- اتأخرت قوي وانت عارف.
أحاول الهرب من بحر الرمال المتحركة في عينيها بتأمل منظر منتظري المترو الذين يتحركون في اتجاه الرصيف. تسلم فأتحسس يدها، ومع انسحاب النعومة يزحف الحزن بطيئًا لكن واثقًا. أحاول التشاغل بتأمل الفتى والفتاة الجالسين وحيدين على الجهة المقابلة حتى يأتي المترو بصخبه ويختفيان. أنتظر الصخب التالي والتالي حتى...
انتهى الصخب ككل شيء! أفاجأ أنني وحدي. أهرع بسرعة صاعدًا السلالم خارجًا إلى الدنيا لكن كل شيء يرحل. الباعة يحملون بضاعتهم مخلفين أكياس البلاستيك على الأرض، والشحاذون يجمعون عاهاتهم ويرحلون، والإضاءة الباهتة تخفت كأنها ستنام. أعود للشوارع التي كانت منذ قليل صاخبة. عصا سحرية أماتت كل شيء!
صوت صراخ أبواب المحال وهي تغلق يؤذي أذني. توصلني قدماي إلى ميدان الأوبرا.
على مرمى البصر في كل اتجاه ألمح شخصًا مسرعًا أو سيارة تعبر الطريق، وعلى الدكك الخرسانية أسفل تمثال إبراهيم باشا أجد بغيتي: شخص جالس يقرأ في جريدة. أترك كل الدكك الخالية وأجلس بجواره. ينظر باستغراب فأبتسم ببلاهة، تطول نظرته:
- مش انت؟
- أيوه أنا..
لحيته البيضاء تتصدر وجهه منبئةً عن سنه، وعيناه يملؤهما التعجب.
- طب أنا اقصد مين؟
أحرك لساني متسولاً الحديث:
- أي حد حضرتك عاوزه.. أنا.
- مش إنت الأستاذ.. يسري بتاع الفيزيا؟
- أيوة أنا الأستاذ يسري بتاع الفيزيا، بالأمارة كنت بدرِّس لبنتك (أنظر إليه مليًّا).. لأ قصدي حفيدتك، مش كده؟
- لأ ما كانش اسمه يسري كان اسمه سمير، وما كنتش بتدرِّس لحفيدتي لبنت أخويا.
- خلاص يا عم. أنا الأستاذ سمير اللي كنت بادرس لبنت أخوك فيزيا. واللا ماكنتش بدِّي فيزيا كمان؟ أنا مدرس الفيزيا اللي طول النهار شغال، الصبح في المدرسة وبعدها في الدروس، حياة مليانة ومافيش وقت، يا دوب أروَّح عشان أنام.. أنام على طول، و..
- إنت رايح فين؟
ينظر إليَّ نظرته إلى مجنون وهو يحاول الجري!
وحدي مرة أخرى. يعني لازم تمشي يا "سها"؟ لعن الله الآباء والعائلات.. نفسي أعرف واحدة مالهاش عيلة! أقلب في أرقام المحمول وأطلب.. جرس.. حتى أنت يا "داليا"!!
أهم بالقيام لكني أجد إحداهن تقترب وتجلس بجواري. فستانها القصير الشفاف ينم عن كل شيء. دخان سيجارتها يتراقص محاولاً هز الهواء المتبلد. ألفت انتباهها بحركة من أصابعي؛ فتلتفت.. ما هذا؟! مساحيق وجهها التي انهارت تعبًا خلَّفت وراءها تجاعيد واضحة!
ليست فتاة ليل، إنها عجوز.. "عجوز ليل"! تأملتها جيدًا فانتفضْتُ. لا تهرب.. لا تهرب.. اعترف.. الآن وليس قبل النوم، الآن..
تقيأتُ الإحساس العابر داخلي: إنها تشبه.. تشبه…
أمي!!
لا...
سرتُ مبتعدًا لكن سمتها لا يفارقني:
طلاء شفتيها متعدد الدرجات أراه في ألوان واجهات المباني، وتجاعيد وجهها الشروخ العميقة في الجدر الخلفية لتلك المباني!!
أعدو ومشاعري ككلاب مسعورة تطاردني..
ألمحه فيعلو صوتي بصرخة يهتز لها الهواء الميت في الميدان الخالي: تاكسي!
يوليو 2004

طارق رمضان

ليست هناك تعليقات: